يوما بعد يوم يتضح أكثر فأكثر حجم وعمق الأزمة المالية التي انفجرت في الولايات المتحدة ، والتي أخذت تنتقل وتتسع آثارها بالاتجاهين الأفقي والعامودي. فمن جانب اتسعت الانهيارات في بورصات المال العالمية إلى جهات الأرض الأربع ، ومن جانب آخر انتقلت الأزمة إلى القطاعات الاقتصادية الرئيسية.
خلال أسابيع قليلة من الانهيارات التي تعرضت لها عدد من المؤسسات المالية العملاقة في الولايات المتحدة ، انهارت مؤسسات شبيهة في بريطانيا ، ومن ثم ألمانيا ، حيث الترابط العميق بين المؤسسات المالية من بنوك وشركات تأمين. أما بخصوص آثارها السريعة فقد سجلت أسواق المال العالمية تراجعات ملموسة في الولايات المتحدة وأوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط وغيرها.
وها هي العديد من الشركات من مختلف القطاعات الاقتصادية تعلن عن تسريحها للآلاف من الموظفين ، ففي الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها سجل فقدان 160 ألف فرصة عمل خلال شهر أيلول الماضي فقط. ووزير المالية البريطاني أعلن بان مليون موظف وعامل سيفقدون أعمالهم في بريطانيا خلال سنة ، وجاء ذلك وسط توقعات بتوسع عمليات التراجع في مختلف القطاعات في الدول الاقتصادية الكبرى.
إن ما يتم تداوله حول الأسباب التي دفعت الاقتصاد الأمريكي إلى الحالة الكارثية التي يعاني منها الآن وجر معه الاقتصاديات الكبرى والناشئة ، لم تتجاوز موضوع الأزمة الائتمانية العقارية والتي اصطلح على تسميتها"أزمة الرهن العقاري" ، مع أن هذه الأزمة نجمت عن تطبيق سياسات اقتصادية ومالية خلال العقدين الماضيين قائمة على نظريات اقتصادية تقدس الأسواق باعتبارها تمتلك مقومات وأدوات توازنها واستقرارها ، والقائمة على فلسفات الاقتصاد الحر.
وقد أطلقت هذه السياسات أيدي رؤساء المؤسسات الاقتصادية والمالية للعمل بحرية تامة وبدون قيود ، لا بل قامت السلطات السياسية والاقتصادية الحكومية بتقديم التسهيلات والمساعدات ، إذ قام الاحتياطي الفدرالي"البنك المركزي الأمريكي" بتخفيض الفوائد على التسهيلات الائتمانية إلى مستويات قاربت الواحد بالمائة ، الأمر الذي إلى حدوث توسع كبير في الائتمان العقاري دون وجود ضمانات كافية ، أو تطبيق سياسات تحوط لمخاطر انخفاض أسعار العقار في المستقبل.
كذلك أدى انسحاب الدولة من التدخل في العملية الاقتصادية إلى انفلات الممارسات المالية والاقتصادية ، والى تمكين المؤسسات الائتمانية من إعادة بيع الرهون العقارية ولأكثر من مرة ، وبمبالغ لا تنسجم مع القيم الحقيقية للعقارات المرهونة. وهو ما دفع إلى هيمنة وتغول آليات عمل الأسواق والبورصات المالية على مجريات التطورات الاقتصادية في مختلف الدول ذات الاقتصاديات المتقدمة والناشئة والضعيفة ، واوجد مناخا مواتيا لإرباكات الاقتصاد العالمي الحالية.
من خلال مراقبة ما يحدث من تداعيات لهذه الأزمة غير المسبوقة ، يظهر أن لا أحد يمكنه التنبؤ بما يمكن أن تصل إليه نتائج الأزمة ، فالمعطيات تشير أن آثارها تتحرك كما كرة الثلج باتجاه مزيد من الانهيارات أفقياً وعمودياً ، وباتجاه مزيد من التوسع ولا يبدو أن دولاً محصنة ضد التأثر بها ، فجميع الدول والشعوب ستدفع قسطا يكبر أو يصغر من ثمن هذه الأزمة الاقتصادية الكبرى