اتضح أن استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني بحاجة إلى جهود كبيرة تعمل على تعزيز القدرة الذاتية للاقتصاد الفلسطيني وتقليص تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي. ومثل هذه الجهود تحتاج إلى قيادة واعية مدركة لطبيعة المرحلة.
وفشلت السلطة الوطنية حتى الآن في أن تكون تلك القيادة وذلك لسببين:
أولهما عدم التزامها ببرنامج تنمية متكامل وشامل وتركها الأمور الاقتصادية تجري وفق آراء واجتهادات الوزراء وحسب علاقاتهم بالدول المانحة.
والثاني أجواء الفساد الإداري المنتشرة وبالتالي سيطرة الفاسدين على الكثير من الأمور المالية في أجهزة السلطة.
” لم تتبن السلطة منذ قيامها برنامجا تنمويا شاملا ذا أبعاد إستراتيجية وإنما غلب على إجراءاتها الطابع الارتجالي والآني ” |
فمنذ قيام السلطة عام 1994 لم تتبن برنامجا تنمويا شاملا، وذلك لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، فمن الأسباب الذاتية أن منظمة التحرير الفلسطينية التي انبثقت منها السلطة لم تتعود طوال تاريخها على ممارسة أسلوب التخطيط واعتماد البرامج المرحلية وفق إستراتيجية بعيدة المدى، فإجراءاتها عادة ما تكون ردود فعل وارتجالية وذات طابع آني تهدف كما بقية القيادات العربية للاحتفاظ بمواقعها.
أما السبب الموضوعي فقد قامت السلطة الوطنية على أساس شرعيتين:
الشرعية الدولية التي تحتم على السلطة التنسيق والتعاون مع إسرائيل للوصول إلى حل سلمي للنزاع.
شرعية منظمة التحرير الفلسطينية التي تلتزم بموجبها السلطة أمام شعبها بمتابعة النضال من أجل الوصول إلى تحقيق أهداف المشروع الوطني الفلسطيني.
فكيف يتأتى للسلطة التنسيق بين الشرعيتين اللتين تبدوان متناقضتين، فإسرائيل مستمرة في ممارساتها كما كانت قبل إنشاء السلطة من مصادرة للأراضي وبناء المستعمرات الاستيطانية ومستمرة في تهويد الأراضي الفلسطينية. لذلك لم تتمكن السلطة من صياغة برنامج تنموي يعتمد على علاقات التعاون والتنسيق مع إسرائيل متجاهلة ما تقوم به من ممارسات معادية على أرض الواقع.
ويعتقد أن السلطة لم تكن مؤهلة لصياغة برنامج تنموي يعتمد على علاقة صراع مع إسرائيل لأنه سيفقدها الدعم الدولي الداعم لعملية التسوية السلمية ويعرضها لفقدان الدعم المادي من الدول المانحة التي هي بأمس الحاجلة لها.
وبقيت السلطة طوال سنوات الانتفاضة تعاني من التذبذب بين هذه المتطلبات. وفي النهاية حسمت أمرها بقبولها بخطة خارطة الطريق الأميركية التي تعني الالتزام بمهمات بناء الدولة وترك مهمات التحرير الوطني للمفاوضات.
ونرى أن من الأهمية بالنسبة للمجال الاقتصادي العمل على تحرير الاقتصاد الفلسطيني من تبعيته الحالية للاقتصاد الإسرائيلي، وإن لم يتم ذلك سيبقى من الاستقلال السياسي -إن حصل- فارغا من مضمونه. لذا فإن من أهم متطلبات هذه المرحلة اعتماد السلطة على برنامج تنموي وطني يركز على:
1- تعزيز القدرة الذاتية للاقتصاد الفلسطيني، وذلك عن طريق التركيز على قطاعي الزراعة والصناعة بشكل رئيسي من خلال توسيع مساحة الأراضي المزروعة وإصلاحها، والعمل على توسيع الطاقة الصناعية من خلال تقديم الدعم لهذا القطاع.
2- تشجيع الصناعات التي تنتج سلعا بديلة للسلع المستوردة من إسرائيل، والعمل على تحويل تجارة الفلسطينيين الخارجية من الموانئ الإسرائيلية إلى الموانئ المصرية والأردنية. وكذلك اعتماد مشاريع إسكان كبيرة وقليلة التكلفة لأصحاب الدخل المحدود. وتعزيز شركة الاتصالات الفلسطينية على انتهاج سياسة تسعيرية منافسة للاتصالات الإسرائيلية. وتقليص الاعتماد على شركة الكهرباء الإسرائيلية بالارتباط بالمصادر الكهربائية العربية إن أمكن.
3- تفكيك الإرث الاستعماري الذي ورثته الأراضي الفلسطينية طوال سنوات الاحتلال، وذلك بإعادة النظر في القوانين والأنظمة المعمول بها خاصة في ما يتعلق بالضرائب وأولويات الإنفاق العام.
وبالنسبة لموضوع الفساد فمن المعروف أن ضجة كبيرة أثيرت حول الموضوع، فالإصلاح والتطوير صار مطلبا وطنيا فلسطينيا ثم تبنته الإدارة الأميركية أثناء الانتفاضة لعدم رضاها عن الدور الذي لعبه ياسر عرفات في الانتفاضة وبذلك أصبح هناك مرجعيتان للإصلاح.
وتحدثت الصحف مؤخرا عن الإصلاحات التي أجراها وزير المالية الفلسطيني سلام فياض وأشادت بإجراءاته وهو الذي كان ممثلا لصندوق النقد الدولي في الأراضي الفلسطينية. وهي إصلاحات جيدة ويجب أن تستمر ولكن من الضروري الإشارة إلى أنها حتى الآن تتم وفق المرجعية الأميركية ولم ترق بعد إلى الالتزام بأهداف المرجعية الوطنية في الإصلاح.
وأخيرا هناك حقيقة جسدتها انتفاضة الأقصى وهي أن دخول إسرائيل في العملية السلمية لم يدفعها إلى تغير السياسة الإسرائيلية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني.
وأظهرت الانتفاضة أنه طالما أن هذا التغير لم يحدث فإن هناك وضعا واحدا للعلاقة بين فلسطين وإسرائيل في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور وهو الصراع، وهذا يتطلب من السلطة الوطنية الالتزام ببرنامج اقتصادي فلسطيني يساعد الشعب على الاستمرار في هذا الصراع لا أن يكبل يديه ويزيد من تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي.